هذه
الآية القرآنية الكريمة جاءت في ختام الثلث الأول من سورة "الحجرات", وهي
سورة مدنية, وآياتها ثمانية عشر (18) بعد البسملة. وقد سميت سورة
"الحجرات" بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى النهي عن مناداة رسول الله-
صلى الله عليه وسلم- من وراء حجراته , تكريما له وتشريفا لمقامه عند رب
العالمين. ويدور المحور الرئيس للسورة حول عدد من آداب السلوك مع الله-
تعالى- ومع كل من رسوله, وعباده المؤمنين, ومع المجتمع الإنساني على
إطلاقه.
هذا , وقد سبق لنا استعراض سورة "الحجرات", وما جاء فيها منتشريعات, وآداب, وإشارات علمية, ونركز هنا على وجه الإعجاز التشريعي في الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة
الخطاب
في هذه الآية الكريمة هو للذين آمنوا, ولكنه يبقى على الرغم من ذلك توجيها
عاما للناس كافة, وإن كان الذين آمنوا هم أولى الخلق التزاما به.
والإيمان
هو التصديق بكل ما جاء به الوحي الخاتم في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم
الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم), ويأتي في مقدمة ذلك الإيمان
بالله , وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره.
وفي قوله- تعالى-: (... إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ...*)
نجد أن تعريف الفاسق من الذكور هو المعلن بفسقه دون حياء أو خجل , ويوصف
كذلك بوصف (الفَسيقُ) و(الفَسِق) . و(الفواسق) من الإناث هن الفواجر,
المعلنات بفجورهن دون أدنى قدر من الحياء أو الخجل.
و(الفسق)
هو الخروج عن كل أمر صحيح, كالخروج عن الحق إلى الباطل, وعن الاستقامة في
السلوك إلى الانحراف, وعن الالتزام بأوامر الله- تعالى- إلى معاصيه,
والمجاهرة بذلك. ولقد وصف خروج إبليس اللعين عن أمر ربه بالفسق, وفي ذلك
يقول ربنا- تبارك وتعالى-: (وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ...) (الكهف:50).
والمقصود
بوصف (الفاسق) في الآية السادسة من سورة "الحجرات" هو العاصي لله- تعالى-
المخالف لأوامره, والمجاهر بذلك في وقاحة وصلف بَيٍنَين .
و(النبأ) هو الخبر ذو الشأن. وفي قوله- تعالى-: (...فَتَبَيَّنُوا...) أي فتثبتوا قبل أن تتخذوا أي إجراء خاطئ ضد مصدر الخبر أومن ناقله (وذلكالإجراءقد يكون قولا أو فعلا أو حكما ), فتندموا على ذلك بعد وقوعه,
يقال
(بَيّن) الشئ (يتَبَيَّنُهُ) (تبَيُنا), فهو (مُتَبَيِّن) للشئ, الذي أصبح
(مُتَبَيَّناً) له, أي تأمل الشئ حتى اتضح له وضوحا كاملا.
وفي قوله- تعالى-: (...أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *)أي
خشية أن تتسرعوا في اتخاذ إجراء ما (من قول أو فعل أو حكم ) ضد قوم برآء,
نتيجة لوشاية كاذبة من شخص فاسق, ثم تندموا بعد ذلك على إصابتكم إياهم
بذلك الأذى, عندما يتبن لكم عدم صدق الخبر الذي نقل إليكم وكذب الواشي
بينكم, وهو ندم لا يفيد بعد وقوع الضرر الناجم عن التسرع في الحكم بناءً
على تلك الوشاية الكاذبة.
ومدلول
الآية الكريمة هو ضرورة أن يتحقق كل إنسان من دقة الأخبار المنقولة إليه,
ومن صحة مصدرها, وعدم التسرع باتخاذ أية قرارات بصددها, إلا بعد التثبت من
صحتها. ويجب ذلك في جميع الأحوال , خاصة إذا كان ناقل تلك الأخبار من
الفساق العاصين لأوامر الله- تعالى- والمجاهرين بمعاصيهم, فهؤلاء لا أمان
لهم, ولا رادع يردعهم, وهدفهم هو الإفساد في الأرض, وإثارة بعض الناس على
بعض, وإشاعة البغضاء والشحناء بينهم. والذي يتعجل بالتصرف في مثل هذه
الحالات قبل أن يتثبت من صحة ما نقل إليه, فإنه قد يتسبب في إصابة عدد من
الأبرياء بأذى دون أدنى مبرر, ثم ينتابه الندم والحسرة على تصرفه هذا ساعة
لا ينفع الندم, ولا تجدي الحسرة, ولا يمكن إصلاح الضرر الذي وقع.
ولذلك فإن الآية الكريمة توجه المؤمنين- خاصة-والناس-
عامة- إلى ضرورة التثبت من كل خبر ينقل إليهم, خاصة إذا كان ناقل الخبر
ممن اشتهر بفسقه. كما توجههم إلى ضرورة إرجاء اتخاذ إية قرارات كرد فعل
للأخبار التي وصلتهم حتى يتم التثبت من صحتها, فلا يصاب بريء بأذى دون
أدنى مبرر, فيندم فاعل ذلك ويتحسر على فعلته, ساعة لا ينفع الندم, ولا
تجدي الحسرة.
وفي
هذا الصدد خصصت الآية الكريمة الحذر من أخبار الفاسق بالذات , لأنه مظنة
الكذب, والرغبة في الوشاية, والإفساد بين الناس بإشاعة الكاذب من الأخبار,
ولذلك قديما قالوا : " وما آفة الأخبار إلا رواتها ".
ويتضح
وجه الإعجاز التشريعي هنا في تأكيد الله- تعالى- على عباده المؤمنين- بصفة
خاصة- وعلى الناس بصفة عامة- بضرورة التأكد من المصادر التي يتلقون منها
أو عنها الأخبار, وضرورة عدم اتخاذ أية إجراءات حيال تلك الأخبار من قبل
التثبت من صحتها , حتى لا ينبني على ذلك أية قرارت خاطئة قد تصيب عددا من
الأبرياء بالأذى, وتصيب متخذ القرارات بالندم حين لا ينفع الندم بشئ.
وذلك
لأن سلاح المنافقين الفاسقين في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية كان ولا
-يزال- هو الخبر الكاذب والوشاية بين الناس. ولا يقاوم هذا السلاح الشرير,
إلا بالحرص الشديد على ضرورة التثبت من الخبر الذي يصل إلى أي منا,
واستيضاح صحة المصدر الذي جاء عنه وصدق ناقله, حتى لا تتخذ أية قرارات
مضادة له, أو مفندة لدعواه إلا بعد دراسة متأنية وموثقة. وذلك لأن
القرارات المندفعة أو المتهورة قد تصيب عددا من الأبرياء بالأذى دون أدنى
حق , فيكون الندم حيث لا ينفع بشئ.
وبذلك
يمكن حماية المجتمعات المؤمنة من وشايات الفاسقين, ومن اتخاذ أية قرارات
مندفعة أو متسرعة ردا على تلك الأخبار , دون تبين لدقة مصادرها, حتى لا
تقع الأخطاء والمظالم على الأبرياء فيها مما يجانب الحق والعدل ويغضب رب
العالمين. فخبر الفاسق يجب أن يوضع في موضع الشك دائما , ويجب ألا تتخذ
أية قرارت على أساسه إلا بعد تفنيده, والتثبت من حقيقته. وبذلك يضع
الإسلام العظيم كل الضمانات اللازمة لسلامة مجتمعاته, ولحفظ حقوق كل
الأفراد والجماعات فيه, وهو وجه من أوجه الإعجاز التشريعي في كتاب الله,
قد لا يدركه كثير من الناس.
فالحمد
لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على بعثة خير
الأنام سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا
بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ونفهم من هذه الآية الكريمة أن الله- تعالى- يشرف شهر رمضان باختياره من بين شهور السنة القمرية الإثني عشر من أجل إنزال هدايته للبشرية فيه.
هذا يؤكد كرامة خاصة لشهر رمضان, كما يؤكد ضرورة الأخذ بالشهور القمرية, لأن القمر هو أقرب أجرام السماء إلى الأرض, ومن ثم فإن حركته هي أوضح بالنسبة إلينا من حركة أي جرم سماوي آخر.
وفي هذا النص القرآني الكريم إيجاب على كل من شهد استهلال شهر رمضان من المسلمين, وكان بالغا, عاقلا, معافى في بدنه, مقيما أن يصوم الشهر لا محالة.
والشهود المقصود هنا هو حضور المسلم بداية الشهر, أو رؤية هلال رمضان, أو التأكد من دخول الشهر بأية وسيلة صحيحة, وذلك لأن (الشهود) و (الشهادة) هي الحضور مع المشاهدة إما بالبصر, وإما بالبصيرة, وإما بهما معا, ولكن الشهود بالحضور المجرد أولى هنا, وهي قول صادر عن علم يقيني, ويأتي الفعل (شهد) بمعنى استيقن أي علم علما قاطعا, ويأتي ضمن ذلك الحساب الفلكي.
والخطاب القرآني بالأمر الإلهي ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) هو خطاب لجميع المسلمين المكلفين بالصيام, وليس معنى ذلك مطالبة كل مكلف برؤية الهلال لاستحالة تحقيق ذلك, ومن هنا فإن المعنى المقصود من قول ربنا- تبارك وتعالى- ( فمن شهد ) هو من أدرك شهر رمضان, وعلم بثبوت رؤية هلاله, وذلك بنفسه أو بواسطة أهل العلم والرأي والحكم وجب عليه الصوم إذا كان مكلفا.
ويؤكد هذا الفهم قول ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتموه فصوموا , وإذا رأيتموه فأفطروا , فإن غم عليكم فاقدروا له " والتقدير هو الحساب , وعنه أيضا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ".
وذلك لا يعني عدم الحساب, بل هو من قبيل التسهيل على الأمة في زمن لم يكن متاحا لها أي من المعارف والتقنيات المتوافرة لنا اليوم.
وقد أكد المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: " لا تصوموا حتى تروا الهلال, ولا تفطروا حتى تروه, فإن غم عليكم فاقدروا له ".
والتقدير هنا يشير إلى الحساب, وإلى غيره من الوسائط المتاحة, والتقنيات المتطورة فالحساب الفلكي المبني على أسس علمية صحيحة, والذي يعين على رؤية كل من هلال رمضان بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان وهلال شوال بعد غروب شمس التاسع والعشرين من رمضان, باستخدام كل من الحسابات الفلكية والمتاح من التقنيات المتطورة من مثل (المقربات , والطائرات , والأقمار الصنعية وغيرها) هو المناط الحقيقي لإثبات دخول الشهر.
ورؤية الهلال إذا ثبتت بعد غروب الشمس في أية بقعة من بقاع الأرض, فإن ثبوتها ملزم لجميع الأقطار الأخرى متى علموا بها, وذلك لأن عملية ميلاد الهلال هي حدث كوني, غير مرتبط ببقعة محددة من الأرض, فإذا رؤي الهلال بعد غروب الشمس في أي بقعة من الأرض دخل الشهر القمري بالنسبة للأرض ككل, مع اعتبار الفروق الزمنية, ولكن لما كان كل من القمر والأرض يدور حول محوره من الغرب إلى الشرق, فإن البلاد في نصف الكرة الغربي ترى هلال أول الشهر لفترة أطول من البلاد في نصفها الشرقي, ويبقى فرق التوقيت بين أبعد نقطتين على سطح الأرض لا يتعدى (12) ساعة بالزائد أو الناقص.
كذلك فإن التغير في طول أي من الليل أو النهار يتضاعف باستمرار في اتجاه خطوط العرض العليا, فإذا وصلنا إلى خط عرض (48,5) شمالا أو جنوبا فإن شفق العشاء يتصل بشفق الفجر في فصل السيف, ويكون طول الليل حوالي أربع ساعات فقط, وهنا يلزم التقدير على أساس من أقرب منطقة تنتظم فيها العلامات الفلكية, أو صيام عدة من أيام أخر.
وفي زمن تسارع وسائل الاتصال الذي نعيشه لم يعد هناك مجال لاختلاف الأمة في تحديد أوائل الشهور القمرية, فعلى قادة العالم الإسلامي أن يعملوا على جمع كلمة المسلمين في ابتداء الصوم وانتهائه لعل ذلك أن يكون عونا على إعادة توحيد هذه الأمة من جديد, وما ذلك على الله بعزيز والحمد لله رب العالمين.
الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للمؤمنين من عباد الله , يخبرهم فيه ربهم أن صيام شهر رمضان كتب عليهم كما كتب على الذين من قبلهم , وفي ذلك تأكيد على وحدة رسالة السماء المستمدة من وحدانية الخالق - سبحانه وتعالى- وهي حقيقة الحقائق في هذا الوجود كله.
وفي هذا النص القرآني تأكيد كذلك على أن الله- تعالى- قد ختم وحيه لهداية خلقه ببعثة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- فليس من بعده نبي ولا رسول, ولذلك قال ربنا -تبارك وتعالى- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم... والفعل كتب يشير إلى ثبات الحكم ثبوتا مطلقا. بما معناه أن صوم شهر رمضان بالهيئة التي حددها لنا كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كان مكتوبا على الأمم من قبلنا كما هو مكتوب علينا, وسيظل مكتوبا على جميع المؤمنين من بعدنا إلى قيام الساعة, ولذلك قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم".
والصوم في اللغة هو الإمساك عن الشئ والترك له, وفي الشرع هو الإمساك عن الطعام والشراب وعن غيرهما من المفطرات (مع النية) من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس طوال شهر رمضان, لأن صوم شهر رمضان هو أحد أركان الإسلام الخمسة لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت".
وتختتم الآية الكريمة بالإشارة إلى الحكمة من فرض الصيام على عباده المؤمنين وهي اكتساب فضيلة تقوى الله فقال- تعالى- في ختام الآية الكريمة (...لعلكم تتقون).
تجسيدا لطاعة الله , ولحقيقة العبودية له , وامتثالا كاملا لأوامره , ولذلك قال- تعالى- في حديثه القدسي الذي يرويه عنه رسوله- صلى الله عليه وسلم- : "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" . ومن اللافت للنظر أنه ما عبد غير الله بالصيام أبدا,
والصيام يعود الصائم على الصبر والالتزام بمكارم الأخلاق, وفي ذلك يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: " ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث", ويقول... "والصيام جنة, فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث, ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم". ويقول: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
والصيام يعود المسلم على الانتظام في العبادة , وعلى الاجتهاد في حسن أدائها , فيجمع إلى الصلوات المفروضة وسننها, العديد من السنن الأخرى ومنها صلاة التراويح , وقيام الليل , والمواظبة على قراءة القرآن ومدارسته, وعلى التفقه في الدين بحضور مجالس العلم , والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان, وأداء عمرة رمضان إن استطاع إلى ذلك سبيلا لقوله- صلى الله عليه وسلم- "عمرة في رمضان تقضي حجة أو قال حجة معي ". وقال: " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
والصوم يعود الصائم على الجوع والعطش مما يجعله يدرك جانبا من جوانب معاناة الفقراء والمحتاجين في مجتمعه , فيندفع لمساعدتهم بما تجود به نفسه التي هذبها الصيام في شهر رمضان , وهذا يعين على حسن التواصل بين الأغنياء والفقراء والحنان على الضعفاء وذوي الحاجة من حواليهم فتستقيم الأمور, وتأمن المجتمعات.
والصوم يعين على إحياء روح الجهاد في أمة الإسلام, وذلك بتذكير المسلمين بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في شهر رمضان ابتداء بغزوة بدر الكبرى, ثم فتح مكة, ثم فتح كل من رودس, وبلاد الأندلس, وتحرير فلسطين من أيدي الصليبيين في معركة حطين, ثم من أيدي التتار في موقعة عين جالوت, إلى معركة الشرف والكرامة التي دكت حصون الصهاينة في العاشر من رمضان سنة 1393ه الموافق السادس من أكتوبر سنة 1973م.
وصوم رمضان يذكر المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة, لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرهم من الأمم, فلعلهم يستشعرون ذلك فيسعوا إلى توحيد صفوفهم ولو على مراحل حتى يتمكنوا من العيش بكرامة وسط عالم التكتلات الذي نعيشه.
هذه بعض أوجه الحكمة من التشريع الإلهي بصوم شهر رمضان, والتي جمعتها الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال في قول ربنا- تبارك وتعالى- (..لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ), ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " بَعُدَ من أدرك رمضان ولم يغفر له ".
(391) - ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان…*)
(البقرة:185)
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار
الشهر الوحيد الذي جاء ذكره باسمه صريحا في القرآن الكريم هو شهر رمضان, وذلك تشريفا له لأن الله - تعالى- اختاره من بين شهور السنة لإنزال القرآن الكريم فيه. وهذا الكتاب هو ناسخ لجميع الرسالات السماوية التي سبقت نزوله, ولذلك تعهد ربنا – تبارك وتعالى- بحفظه, في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) على مدى أربعة عشرة قرنا أو يزيد, وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقى القرآن الكريم جامعا للهداية الربانية للخلق أجمعين إلى يوم الدين , وشاهدا عليهم.
وتأكيدا على وحدة رسالة السماء قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم) : "أنزلت صحف أبراهيم أول ليلة من شهر رمضان, وأنزلت التوراه لست مضت من رمضان, وأنزل الزبور لثلاث عشرة مضت من رمضان, وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان, وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان ". ولذلك قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الأنبياء أخوة لعلات , أمهاتهم شتى , ودينهم واحد".
وتأكيدا على ذلك نقول أنه كما فضل ربنا- تبارك وتعالى- بعض الرسل وبعض النبيين على بعض وبعض الأفراد العاديين على بعض, فإنه فضل بعض الأماكن وبعض الأزمنة على بعض, فجعل مكة المكرمة أفضل بقاع الأرض على الإطلاق, يليها في الفضل مدينة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, يليها مدينة القدس (حررها الله). ومن تفضيل الزمان جعل ربنا- تبارك وتعالى- يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع, وجعل شهر رمضان أفضل شهور السنة, وجعل الليالي العشر الأخيرة منه أفضل لياليه, وجعل أفضلها على الإطلاق هي ليلة القدر التي جعلها الله- تعالى- خيرا من ألف شهر, وفي ذلك يقول: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*) (الدخان : 3-6 ).
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن القرآن الكريم أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان في أول سنوات البعثة النبوية الشريفة , ثم أنزل بعد ذلك مفرقا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحسب الوقائع على ثلاث وعشرين سنة.
وهذا يؤكد أن تعظيم شهر رمضان ليس لمجرد فرض الصيام فيه على كل مسلم بالغ, عاقل, حر, سليم ومقيم ( ذكرا كان أو أنثى) وإنما كان تعظيم هذا الشهر لسر فيه يشير إليه اختيار الله – تعالى- له لإنزال جميع ما نعلم من الرسالات السماوية فيه. ومن هنا كان تشريع الصيام في شهر رمضان تكريما له وتشريفا. وهذا لا ينتقص من قدر عبادة الصيام عند رب العالمين القائل في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ...".
وكان المصطفى – صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه الكرام بمقدم شهر رمضان وذلك بقوله الشريف: " قد جاءكم شهر مبارك, افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة, وتغلق فيع أبواب الجحيم, وتغل فيه الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر, من حرم خيرها فقد حرم" .
ومن أقواله أيضا ما يلي
1- " الصلوات الخمس, والجمعة إلى الجمعة, ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر".
2- " من صام رمضان وعرف حدوده, وتحفظ مما كان ينبغي أن يتحفظ منه كفر ما قبله".
3- " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
4- " إن للجنة بابا يقال له الريان, يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب ".
وكان فرض صوم شهر رمضان في يوم الإثنين, في الليلة الثالثة من شهر شعبان, من السنة الثانية من الهجرة وكل من القرآن والسنة وإجماع أئمة الأمة يؤكد أن صوم رمضان واجب إسلامي, وركن من أركان هذا الدين التي علمت من الدين بالضرورة, لذلك كان منكره كافرا مرتدا عن الإسلام.
أعاننا الله- تعالى – على حسن صيام رمضان وقيام ليله, ومدارسة القرآن الكريم فيه, وأداء حقوقه على الوحه الذي يرضي ربنا (آمين), وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب وغيرهما من المفطرات نهارا كاملا من طلوع الفجر الصادق, إلى غروب الشمس, والصيام منه المفروض وهو صيام شهر رمضان أداءً وقضاءً, وهو ركن من أركان الإسلام. ومن الصيام صيام الكفارات, والصيام المنذور, وهناك الصيام المسنون أو المندوب ومنه الصوم في الأشهر الحرم, وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قمري, ( ويندب أن تكون الثالث عشر إلى الخامس عشر من الشهر), ويندب كذلك صوم يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع, وصوم ست من شوال مطلقا, كما يندب صوم التاسع من ذي الحجة لغير القائم بأداء الحج. وللقادر على صيام يوم بعد يوم وهو أفضل أنواع الصيام المندوب أن يفعل ذلك.
أما الصيام المكروه فهو إفراد يوم الجمعة وحده أو يوم معلوم من أيام أصحاب المعتقدات الفاسدة وحده بالصيام, ومن المكروه وصل صيام شعبان بصوم رمضان.
ومن الصيام المحرم صيام يوم العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى ) وصيام أيام التشريق, وصيام المرأة نفلا بغير إذن زوجها, ومنه صيام الدهر, وصوم الوصال (وهو مواصلة الإمساك نهارا وليلا ومنه صوم الصمت (أي الامتناع عن الكلام لفترة طويلة).
من أوجه الحكمة من الصيام
1- تقوى الله, ولذلك ختمت الآية الكريمة بقوله- تعالى-: (..لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ), والتقوى تعرف بالإيمان بالله الخالق, والخضوع لجلاله وحده بالعبودية والطاعة, وخشيته في السر والعلن.
2- زيادة الإخلاص في قلب الصائم بجعل الصيام خالصا لوجه الله- تعالى-, وتقوية الإرادة عنده بمداومة المقاومة لكل من الجوع والعطش, ولغيرهما من الشهوات والمغريات, ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ", وقال: "الصوم جنة" أي وقاية من المعاصي ومن النار. فعلى الصائم أن يحرص على غض البصر, وستر البدن, وكف الأذى عن الناس.
3- إشعار الأغنياء بما يعانيه الفقراء والمعوزون في المجتمعات الإنسانية من معاناة الجوع والعطش وآلام الفاقة فيذكرهم ذلك بحقوق المحتاجين عليهم, ويعودهم على حسن الرعاية لهم. وجاء في حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن, فلرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة. فشهر رمضان هو شهر التدريب على الجود والكرم والبذل في سبيل الله, وفي ذلك يقول رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء".
4- تذكير المسلمين بمدارسة القرآن الكريم.
5- تعويد المسلم على ضبط النفس والالتزام بمكارم الأخلاق لقول رسول الله: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه".
6- تعويد المسلم على الاجتهاد في العبادة بكل من فرائضها ونوافلها, فيجمع إلى الصلوات المفروضة عديدا من السنن التي منها صلاة التراويح وقيام الليل, ومدارسة القرآن, والتفقه في الدين وأداء العمرة إن استطاع إلى ذلك سبيلا.
7- تعريض المسلم لبركات ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
8- أحياء روح الجهاد في أمة الإسلام وذلك بتذكيرهم بأن جميع انتصاراتهم العسكرية كانت في هذا الشهر الفضيل, ابتداء من غزوة بدر الكبرى إلى فتح مكة حتى معركة رمضان المباركة سنة 1393ه /1973م.
9- إتاحة الفرصة لجسد الصائم بأخذ فترة راحة استشفائية يتم خلالها إصلاح إعطابها والتخلص مما تجمع فيها من الدهون, والشحوم, والسموم, والنفايات على مدار السنة. هذا بالإضافة إلى ما ثبت للصوم من تأثير إيجابي على قدرات التفكر والتذكر, وتقوية جهاز المناعة في الإنسان.
10- تذكير المسلمين بحقيقة أنهم أمة واحدة لديها من عوامل التوحد ما لا يتوافر لغيرها من الأمم التي أدركت حقيقة أن الإنسان يعيش اليوم في عالم التكتلات البشرية الكبيرة فتوحدت, في الوقت الذي تسعى لمزيد من تفتيت المسلمين بعد أن قطعت أوصالهم في أكثر من (62) دولة ودويلة. وقد أدى هذا التفتيت للمسلمين إلى بعثرة إمكاناتهم المادية والمعنوية والبشرية, وإلى تخلفهم في جميع المناحي المادية للحياة. ولعل هذا الشهر الكريم أن يذكر المسلمين كلما مر بهم أنهم أمة واحدة فيبادروا بتجسيد ذلك أمرا واقعا إنقاذا لأنفسهم وللبشرية الضالة من حولهم من الهلاك.
هذا الاستعراض السريع يوضح لكل ذي بصيرة فضل الصوم حتى في الحالات التي رخص فيها القرآن الكريم للمسلم أن يفطر ما لم يكن في ذلك إضرار بصحته والله يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق يستطيع فقط المستخدمون المسجلون [ التسجيل | دخول ]